الأربعاء، 16 يونيو 2010

وعادت قريظة.. مذكرات ثلاثة أشهر في وسط البهائم


وعادت قريظة


.. مذكرات ثلاثة أشهر في وسط البهائم[1


(1)



العاشرة صباحاً

..

نهر العمل ينسابُ في منتجعٍ ينتعشًُ انتعاشةُ الربيع، رُسمت طرقه وقصوره وحدائقه وأشجاره، بل وتغاريد بلابله كأنما رسمت في خيالِ حالمٍ بجنةٍ هي أروعُ ما خلق الله من جنان الدنيا


.. العمل في هذا المنتجعِ مهما تجعد وجهه بروتين الحياةِ ومشاكل المواقع وسأمِها، فإن طبيعته الخلابةِ تمسحُ هرم ذلك الوجهِ، وتعيدُ إليه نضارته بنظرةٍ حالمةٍ في الروعةِ التي تحتضن عينيك إلى عالمٍ آخر.. رنين هاتفٍ من رقمٍ غير منتظر.. -السلام عليكم.. - وعليكم السلام كيفك يا حسام.. -الحمد لله .. كيف حالك يا أستاذ علي؟ - الحمد لله يا إبني..شوف يا إبني أنا هجيبك هنا المدينة.. عندنا في الشركة نحتاج مهندس ضروري وأنا رشحتك ولكن نريد إنهاء الإجراءات سريعاً لأن المهندس الموجود سيعود مصر لبعض الظروف.. -وما تفاصيل العقد؟ -الراتب (....) والسكن والسيارة.. -أليس الراتب قليلاً؟ -اعتبره راتب بشكل مبدأي لمدة شهر شهرين على الأكثر، لكن الوضع هنا ممتاز وإن شاء الله ربنا يجعل رزقك في المدينة..


... وانتهت المكالمة التي اجتذبتني إلى معادلةٍ صعبة، فالراتب ليس مجدياً، وجحر السفر لم يزل سم لدغته قبل أشهر من تجربة الخُبر، ثم عملي هنا مستقر والحمد لله، العقلُ أن أبقى.. لكن عاطفة المدينة وسكناها وحرمها كانت تجرفني بعيداً عن أيةِ حسابات مادية..



طالت فترة التردد، وكثرت معها الاتصالات من الأستاذ علي و (م) فتحي مدير مشاريع الشركة، والذي جمل الصورة أكثر وأكثر، وكال لي الوعود الطيبة محاولاً أن يقضي علي أية نبتة تفكيرٍ أو تردد -كيفك يا حسام؟ -الحمد لله.. -يابني لماذا تتردد -بصراحة العقد غير مجزي بالمرة ، ولكنها المدينة.. -يابني لا تتردد ولا تخف، أية مشاكل أنا موجود هنا، وإن شاء الله سيكون لك وضع ممتاز في الشركة لأنك ستسد فجوة كبيرة هنا وأنا واثق من ذلك، ووضعك بالتأكيد سيتحسن..



ربما أنني جعلتُ من هذه المكالمة متكأً لي لأعزم على السفر إلى حيث تغلبني عاطفتي، وربما اتخذت منها عصاً أهشُ بها أيَّ ترددٍ أو تفكيرٍ منطقي، حتي أقنعتُ نفسي أخيراً بأنها تجربةً يطيب لي أن أخوضها ولو اعترضها غمار الناصحين وأمواج من استشرتهم من أهل الخبرة.. خصوصا والاستاذ علي يعمل منذ نيفٍ وعشرين عاماً في المدينة.. وأسرته على ذلك نعرفها منذ زمن.. وابنه صديقٌ قديم من أصدقاء الدراسة

أبلغت شركتي برغبتي، واتفقت معهم على مهلةٍ تمكنهم من تسليم المواقع لمهندس آخر. وظل يرفعني صباحٌ ويحطني مساءٌ حتى أسلمتني الأيامُ إلى حقيبةِ سفري في المطار لأعاود الترحال من جديد.. * * * 16/3/2010

ساعتان وتبدلت ملامحُ الكون..السماءُ وإن عرفناها واحدةً، إلا أنها في مصر رحباء تحتضن العين، وتأخذها إلى أحلامها.. بينما هي الآن في جدة تكاد تتجمدُ وتتصخر امام النفس المغتربةِ كصخر الجبال.. الناس والشوارع والطرقات بعدما كانوا أُنساً للنفوسِ منذ ساعتين همُ الآن جمادات تتحرك لا تزيدُ النفس إلا وحشةٌ على وحشتها.. كأنما الطائرةُ آلة تبتلع الإنسان فتهضم مشاعره ثم تلفظه في عالمٍ آخر وقد جردته من كل ما يأنس به.. حملني سيل الافكار على طريق المدينة.. هنا في جدةَ أحبابٌ تخطفتهم الغربةُ منذ فترة كأنها الدهورُ المتعاقبة.. أتراهم على مقربةٍ مني الآن؟ ..أتراهم على ما تركتهم عليه؟ .. أم بدلهم تعاقب الأيام وتباعد المسافات التي تملأها رمال الصحاري وصخور الجبال حراً وجفاءً؟!..

الأرض تطوى تحت السيارة كما تطوى لحظات اللقاء وسويعات السعادة تحت عجلات الأيام، رياض الأشواق تفرش الصحراء.. وأزهار الحب تكسوا الجبال إلى الحرم.. إلى مدينة احتضنت الرسول.. إلى قبره صلي الله عليه وسلم.. إلى أُحدٍ وجبل الرماةِ.. إلى ساحاتٍ حملت الأبطال إلى الخلود، وإلى مقابر الخالدين من شهداء أحد.. بزغت مآذن الحرم في السماء.. ورفرف إليها القلبُ حتى حط عليها يود لو قبلها واحتضن الحرم بأسره.. لكنما الموعد هنا حيث واعدني الأستاذ علي عند موقف النقل الجماعي -حمد لله على السلامة يا حسام - الله يسلمك -كيف الحال؟ -الحمد لله.. إلى سكني الآن؟ -لا.. الآن ستذهب إلى السكن معي حتى نبحث لك عن سكن غداً.. -نبحث عن سكن؟!.. وأين سكن المهندس التابع للشركة؟! -بصراحة يا بني السكن عليك.. وأنا ناقشتهم في ذلك كثيرا ولكن.. -لكن ماذا؟؟.. من أولها؟!.. اقسم بالله أنا الآن عندي أحجز على أول طائرة وأعود وأخسر المزيد ولا أعمل مع امثالهم - اهدأ يا حسام وإن شاء الله ستحل المشكلة.. وأنا لن أسكت عن هذا..

-----------------------------------------



1] شرف البقعة لا يستلزم شرف من فيها.. قال الله عز وجل: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق).. وقال: (لئن لم ينته المنافقون-والذين في قلوبهم مرض-والمرجفون في: المديينة).. أما لفظة البهائم فأقول مع اعتذاري للبهائم: (بل هم أضل) من البهائم.. (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟؟ أولئك كالأنعام بل هم أضل)

هناك 4 تعليقات:

المجاهد الصغير يقول...

السلام عليكم
حمدلله على سلامتكم
وننتظر المزيد
اهم حاجه زرت النبى
انا بقول اكييييييييد
وفقكم الله

ايومي يقول...

حمدالله على السلامة يا باشمهندس،
يسر الله لك أمرك وكاد من كادك وأخذ منه بثأرك إن ظل على طغيانه وجوره على حقك.

د/على خميس يقول...

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ازيك يا باشمهندس حسام ...
أخبارك ايه يا أديبنا الهمام
أنا فى اسكندرية دلوقتى الحمد لله من 6 أشهر .. أشوفك قريب إن شاء الله
ربنا يبارك لك
و فى انتظار باقى المذكرات مع انها بترجعنى لأيام غثها أكثر من سمينها
تحياتى

القلم السكندري يقول...

عليكم السلام ورحمة الله وبركاته

وجزاكم الله خيرا على دعواتكم الطيبة

واعتذر كثيييراً عن التأخير



د.علي أتشوف وأتشرف لقياك قريبا وادع لي أن اختطف نفسي سويعات لأنني في طاحونة لا يعلمها إلا الله



دعواتكم