الجمعة، 16 يوليو 2010

وعادت قريظة (5).. مذكرات ثلاثة اشهر في وسط البهائم

(5)

بدا فتحي في ذلك اليوم شاحب الوجه، أكسبه حزنه نبرة خشوعٍ مصطنع، ورسمت ذقنه التي لم يحلقها منذ أسبوع على وجهه قول الله: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كـنهم خشبٌ مسندة) !.. كان مذياع السيارة يبثُ سورة يوسف في جوٍ صباحيٍ أسرت الغيوم شمسه.. تنهّد فتحي تنهيدة كأنها فارت فوق همٍ عميق يغلي بداخله، فدفعتها الفورة إلى لسانه، قال بنبرةٍ محترقة: - سورة يوسف عجيبة أوي يا أخي، كلما أقرأها وحدي أبكي.. نفس الذي يحدث الآن من ظلم الأخ لأخيه والـ.... تجمد الكلام على لسانه

.. لم أتعجب أن يبكي فظٌ نصابٌ ظلومٌ مثله.. وما العجبُ في عدل الله عز وجل أن يبكي مثله كما أبكى وأذل كثيراً من العمال الفقراء وأبنائهم وزوجاتهم واستحل أموالاً يتحصلون عليها بشق الأنفس فاستكثر عليهم ذلك الفتات؟! وصلنا الإدارة التعليمية حيث كنا على موعدٍ مع المهندسين المسئولين عن المشروع كالعادة يستقبلونه بتندر وتهكمٍ مازح..

-أهلاً دكتور فتحي.. ماشاء الله جاي بلحيتك كمنك هتقابل الشيخ "عبد الحفيظ" يعني؟ ولا تاب الله عليك؟! رد آخر: حتى المسجد ياراجل يانصاب؟!.. المسجد؟!- فيرد فتحي في استحياء مصطنع: استر علينا الله يستر عليك

ثم يتبادلون قصصه وهو ينصب على استشاري وزارة الأوقاف في أعمال إنشاء مسجد كان تحت إشرافه، وحيله وهو ينصب على لجنة الإستلام النهائي للمدرسة التي أنشأها في قرية "اليتمة" حين نجح في خداع اللجنة كلها ولم يكن هناك عملاً واحداً من الأعمال تم تنفيذه وفقاً للمواصفات، وغيرها وغيرها كلٌ منهم يحكي قصته وما شاهده أمامه من "الدكتور فتحي" كما يطلقون عليه حيث أنه


"دكتوراه في النصب"..


وهو يضحك ويقهقه منتشياً سعيدا بحيله قال له أحدهم وهو يضحك: عشان احنا بدو وقليلي الحيلة تنصب علينا؟ فازداد نشوة وزهواً كأنما حقق انتصارات تاريخيةٍ بحكايات نصبه أنهينا مهمتنا هناك، وتوجهنا بعدها للمدرسة


.. أخذني الفضول لأعرف أكثر عن هذه القصص.. لكنه كان منتفخاً بشهوةٍ عارمة ليقص عليَّ طوال الطريق مزيداً من تفاصيل هذه المصائب وبراعته في الاحتيال فيها وكيف أن لجنة استلام كبيرةٍ أتت من الرياض خصيصاً لم ينجح واحدٌ فيها في اكتشاف حيله.. كان الأستاذ "سامح" -مدير أحد مصانع الخرسانة- في انتظارنا ليتحدث معي في لوحات بعض المشاريع الخاصة به


.. لكن فتحي أخذنا إلى الحديث عن مصر وأحوال مصر، وكيف أن البلطجة اليوم أصبحت هي التي تحكم وتفصل في كثير من المنازعات! ثم بدا يقصُ علينا قصته حينما اعتدي "بعض الناس" علي أرضٍ له وعلي بعض عقاراته فباعوها ..

وكيف أن أرضه التي بيعت سكنها أناس مسلحون من الصعيد، لا يبرحونها ويحمونها لصالح اللواء الذي اشتراها..



- ذهبت للواء في الشرطة يعتبر ابن عمي.. قال لي أنا لا أستطيع أن أفعل لك شئ ما دامت الأرض خارج حيازتك، لكن أنا أدلك علي الطريق لتسترد ارضك ثم بعد ذلك نبدأ إجراءاتنا القانونية


.. دلني علي رجل من سوق العبور وقال لي هذا من سيعيد لك أرضك.. ذهبت وقابلته.. رجلٌ ضخم الهيئة.. حوله حراسته التي تتشكل من رجال الواحد فيهم يسد باباً وكلهم مسلحون.. أراني تحت مقعد السيارة الخلفي زخيرة تكفي ليحارب بها بلداً.. طلب مائة الف جنيه ليرد لي الأرض.. دفعتها له.. اتصل بي ذات ليلة وقال لي احضر الآن لأرضك لترى بنفسك.. خفت أن أحضر فتصيبني رصاصة طائشة أو يفشل رجاله في هذه المعركة "وأروح في الرجلين".. قال لي افتح تليفونك واسمع الضرب بنفسك


.. دخلت مجموعة مسلحة على سكان الأرض فأعدموهم ضرباً.. ثم أوثقوهم ليوقع كل واحد من خمسة رجال منهم على نفسه وصل أمانة بمبلغ مئتين وخمسين ألف جنيه ثم أخذوا منهم بقرة كانت معهم وأخذوا كل ما وجدوه في الأرض كغنيمة معركة لهم! حذروهم من أن يتنفس واحد منهم بكلمة عما حدث أو أن يخرج أحدهم من بلده في الصعيد.. بعدها ذهبت إلى الرجل ليحمي أرضي إلى حين أن أكمل إجراءاتها وكان المحامي قد أخبرني أن القضية ستسغرق حوالي ستة أشهر، وطلب الرجل عن كل شهر حماية عشرة آلاف جنيه فدفعت له ستين ألفاً أخرى...

كان فتحي يحكي هذه القصة وهو لا يعلم أنني أعرفها من قبل بكل تفاصيلها التي أخفاها، وأنها قصة متواترة بلغتني من عدة مصادر لصيقة به..

لم يذكر "فتحي س" شيئاً عن أولئك "الناس" الذين باعوا أرضه وكيف وصلوا للأوراق التي باعوا بها هذه الأرض..

إنها زوجته.. زوجته التي لم تسلم من شروره أيضاً فامتلأت عليه حقداً وبغضاً.. ثم استغلت توكيلات معها لبعض أملاكه فباعتها في إحدى الأجازات التي نزلت فيها لمصر وحدها حيث كان لا يستطيع النزول لمصر بسبب قضية "تزوير شهادة كلية الهندسة" لصالحه والتي كانت مرفوعة ضده في ذلك الحين، وغيرها من القضايا.. باعت أرضه وبعض ممتلكاته، ورفعت عليه قضية طلاق، وأبلغت عن مكانه ومقر مكتبه وجميع تحركاته حتى تم القبض عليه وتسليمه لمصر.. طلقها لتتزوج محاميه ثم خسر بعد ذلك ابنته حين توفيت مع أمها في حادث طريق هي وزوجها الجديد! حينها فقط علمت لماذا كلما تحدثنا عن مصر كان فتحي من بين جميع المشتاقين إليها دائماً يقول: أثقل شهر علي قلبي الشهر الذي أنزل فيه مصر.. لا أطيق نزولها.. وحين أستغرب كلامه يقول: ليس لي أحد هناك! كان كثيراً ممن حوله يقولون "ما حدث لفتحي في حياته لو حدث لأي أحد لكان كفيلاً بأن يهده عما يفعل من ظلم" .. لكنهم لم يسمعوه وهو يقول لي "ثم تدخل في رجلي "شوكة" فيشمتون في!.. اللي عاوز يروح يدعي يروح!" كأنه حين يقولها أسمعُ في أحرفه صدى: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم)... * * *

قال "خفاجة" ونحن نشرب شاي العشاء: ما رأيك في فسحة ستخرجك من جو الاكتئاب؟ - متي؟ - الآن.. نذهب إلى ينبع - ولكن الساعة جاوزت العاشرة.. وفي الصباح عندي موقع.. - وما المشكلة.. الفجر نعود..

تتسارع بنا السيارة بين الجبال صوب ينبع.. الليل أسدل ظلامه على الكون فلا نكاد نرى إلا مدّ كشافات السيارةِ على الطريق.. يكادُ النومُ يزملُ أعيننا لولا مسامرةِ نحاول أن ندفع فيها غطائه عن نفسينا..

كلُّ شئ حولنا يسكبُ النوم في العيون.. الظلام، والهدوء .. والطريق الذي نكاد لا نرى فيه بشراً سوانا.. نزيد من سرعتنا نحاول أن نسابق النعاس قبل أن يغلبنا في وسط الطريق.. اشترينا بعض السندويتشات والعصائر، ثم توجهنا إلى شاطئ البحر

.. ما إن نزلنا من السيارةِ حتى أنعشتنا نسمةُ هواءٍ كأنها قادمةٌ من مصر.. حاولتُ أن أسبح بعيني إلى الأفق البعيد علّني أخترقه وأصل إلى البر الآخر.. فخلف هذا الأفق مصر

.. قال صاحبي كأنه يقرأ ما في نفسي : سبحان الله.. مياه واحدة.. هنا على هذا الجانب ليس لها طعم.. وعلى الجانب المصري لها طعم آخر

- مصر كالجسد الذي ينتعش بروحه، حتى صحراؤها تستشعر فيها الحياة وإن كانت قاحلة.. وهذا لا يعارض أن احب البقاع عندي أحبها إلى الله على ترتيبها.. لكنها الفطرة التي لا تستطيع أن تنزعها السمكة لتنطلق حرة خارج الماء!.. حريتها خارج الماء هي الموت

سافرت عقولنا إلى مصر لدقائق.. ثم ارتطمنا في وحل الواقع لنجد أنفسنا في مقر مؤسستنا المحترمة!.. لا ندري لماذا يستمتع هؤلاء بالغش والنصب لهذه الدرجة؟!.. إنهم أحياناً يخالفون أو يغشون غشاً لن يفيدهم في مال مثلا ولا في غيرها.. الغش وخديعة

الآخرين في حد ذاتها هدف




ذات مرةٍ قال أحد الموظفين لـ "سعد" : يعني أنت تقرب "فتحي" و"عزوز" وأنت تعلم جيداً أنهم يسرقونك.. بل وضبطهم لاكثر من مرة يستخدمون عمالة الشركة ومعداتها لتنفيذ مشاريع لصالحهم، ثم تأتِ على واحد مثلي لا تعطيه راتبه لأكثر من شهر ولا يجد إلا إعاشة رمزية لا تكفي حتى للطعام لآخر الشهر.. هل تعلمُ أن صاحب السكن طردنا الشهر الماضي لأننا لم نستطع دفع أجرة المسكن وبت ليلة في الشارع أنا ومحمد المحاسب؟!

رد عليه سعد –ببرود - : اسرقني أنت كمان زيهم

وظللتُ وصاحبي نجاوب أمواج البحر بأمواجٍ مما في نفوسنا من غضب.. ويفيضُ كلٌّ منا مما رآه من عجاب النفاق والغش والعفن.. حتى تسلل إلينا النعاس من جديد.. قال: يبدو أننا سننام هنا.. بلغ بنا التعب مبلغه ولا أستطيع أن أقود.. - أما أنا فعندي أتعذب ساعتي الطريق ثم أرتاح ساعة في فراشي هي خيرٌ من عشر ساعات نوم هنا.. نم أنت.. ولكن بعد أن تدلني على مفرق الطريق حتى لا تجد نفسك في جدة وانطلقنا نسارع النوم ونصارعه.. أشدُّ أعصاب عيني لتبقى مفتوحةً رغماً عنها حتى لا تنهدّ عليّ جبال النوم المحيطة

قال صاحبي وهو يتثائب: ماذا ستفعل في هذا الكمين، ورخصة السيارة ليست معي، وأنت بلا رخصة ؟ -وبلا إقامة أيضاً!.. عساهم يرحلوننا فنعود لمصر رغماً عن سعد..

الخميس، 8 يوليو 2010

وعادت قريظة (4).. مذكرات ثلاثة اشهر في وسط البهائم

(4) تتهيأُ الشمسُ للنزولِ إلى خط الأفق البعيد، وأتهيأُ للنزول الثاني.. أنحدرُ في الطريق يتلوى بي يمنة ويسرة إلى الحرم.. بينما تتقلبُ عيني في مزيجٍ غريب من الجنسيات المتباينة، لا يجمعُ بينهم سوى أنهم كلهم غرباءُ عن أهليهم وديارهم، شردهم رغيفُ العيش في أنحاء الأرضِ يمنة ويسرة.. تكاد تشعرُ أحياناً أنك في حيٍ هنديٍ أو بنغالي من كثرة البنغال والهنود.. كثيراً ما كنتُ أتأملُ حياتهم وأستمعُ إليهم متعجباً وهم يحكون لي عن معيشتهم وكيف تلفظهم بلادهم إلى الغربة سنوات متواصلة، بعضهم من لا يري أهله وزوجته وأولاده إلا كل أربعة أو خمسة سنوات.. يتصل بهم مرة واحدة كل شهر لاقتصاد نفقته.. يظل العامل منهم يأكل تراب الأرض وينحتُ صخور الجبال بأسنانه وأظفاره في هجير الشمس طوال يومه، ثم يلقي إليه سيده "السعودي" بستمائة ريال كل شهر لينفق أغلبها في طعامٍ بئيس لا يسمن ولا يغني من جوع.. وكثيراً ما يخصم عليه سيده من هذا الفتات استكثاراً عليه وطمعاً في ريالاتٍ هي لقيماتُ ذلك المسكين وأطفاله الصغار الذين خلفهم هناك خلف الآفاق.. تتقازمُ البيوتُ رويداً رويداً تكادُ تختفي من أمامك قبيل البقيع، وتفسح لعينيك الآفاق تتأملُ الجبال تحتضن المدينة في عزةٍ وشموخ، بينما تنثرُ الشمسُ على رؤوسها لونُ الغروب الذهبي.. مشهدٌ غايةٌ في الروعةِ والصفاء.. لا يلوثه سوى رؤوسُ الشياطين النفاقية كأنها تطل بأعينها من خلف هذه الجبال تتربصُ بالمدينة الشرور.. حرمُ الرسول (صلي الله عليه وسلم) يبسطُ ساحته يضمُّ عليها أشتاتاً من أشتات الأرض.. قد جمعت الألفة بعضهم في حلقٍ يتجاذبون أحاديثهم.. وهدَّ الإرهاقُ بعضهم فآثر أن يستلقي ويضطجع هنا أو هناك.. * * * ما أروع المدينة وسكينتها وسكناها لولا شياطين الإنس تلغُ في طهرها كما يلغ الكلبُ في الإناء ليؤذي عباد الله!.. أنهيتُ تقرير اليوم وسلمتُه لسكرتير المؤسسة.. دخلتُ ل "سعد" وسلمته نسخته بنفسي.. أخذ يتهجى قراءته كعادته وأحرفه تنبعجُ في فمه، وتتعثرُ في لسانه كما يتعثرُ صاعد الجبلِ في الصخور .. لا أدري أيمرُ هؤلاء على حصة القراءة في المرحلة الابتدائية أم أنهم يخرجون من أرحام أمهاتهم إلى وظائفهم وكراسيهم!.. لكنه على بلاهة قراءته فهم ما في التقرير من رفض "البلوك" المورد لمخالفته للمواصفات وللأبعاد المنصوص عليها كما فهم أيضاً ما دُوّن فيه من رفض لكثيرٍ من المخالفات الأخرى.. - شيل السطر ده ياباش مهندس.. ما ينفع يتكتب..



- كيف ما ينفع يتكتب؟!.. ويعني إيه اشيله؟.. أشيله وأتحمل المسئولية أنا؟!.. اللي عاوز يخالف يخالف على مسئوليته مش على حسابي..



- (نظر نظرة يحاول أن يخفي فيها توتره وأن يشيع جواً زائفاً من الطمانينة والثقة في الحوار) : مافي مسئولية عليك.. لكن تقرير كهذا قد يطلع عليه واحد من ضعاف النفوس في المؤسسة في السكرتارية ويسوي بيه مشاكل.. انا أحمي رجالتي إلا


اللي يستنذلوا .. شيله وأنا مسئول..

- أنت المسؤول امضيلي استلام.. المسئوول يمضيلي.. وجم وجوما غريباً كأنما لم تعتد أذنه من قبلُ سوى كلمة "حاضر".."تأمر يا عمنا".. ومثل هذه الكلمات التي تخرجُ على ألسنة العبيد كما تخرج النجاساتُ إلى الكنيف.. إلا أن العبيد لا يستحي أحدهم أن يقضي حاجته أو يكشف سوأته أمام الناس ! تركته يتعثرُ في وجومه ويعض أصابعه، وذهبت أحتسي الشاي في مكتب المحاسبة لأتأمل في تفنن الشياطين في أكل أموال الناس، ولآخذ قسطي من قصص ووجائع الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً للفرار من هؤلاء الشياطين.. بعضهم يهاب لأول وهلةٍ أن يتحدث أمامي عن مظلمته باعتباري "مهندس الشركة" وأحد افراد العصابة!.. ثم لا يلبثُ غالباً –بفضل الله- أن تأخذه الطمأنينة فيكشف لي عن قصص جديدة من المظالم لا أملك بعدها سوى أن أسجل شهادتي بأن لصوص مصر شرفاء بجوار هؤلاء .. أو أن اللصوصية في أرضِ مصر أصعبُ بمراحل من اللصوصية بين "الأعراب"! أنصحهم غالباً بالدعاء علي من ظلمهم في الحرم وعند الكعبة، أذكرهم بقوله عز وجل: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون).. وبقوله : (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل).. وأحياناً أحاول أن أجد لهم طريقاً يخرجون به من بين براثن هؤلاء بأقل خسارةٍ ممكنة.. إلا أنني هذه المرة وجدتُ رجلاً ثائراً يلعنُ في حماقتهم ونصبهم وغشهم.. تعرفت إليه .. مسؤول تركيبات المصاعد وصيانتها بقسم المصاعد بالشركة.. ويبدوا أن طابع الثورة ألف بين قلوبنا سريعاً.. ظل يحكي ويحكي عن عالمٍ آخر لم أكن أعرفه من عالم النصب في مؤسستنا!.. - أقسم بالله ياباش مهندس أنا اشتغلت في المصاعد أكثر من عشرين سنة، لم أر أحدا يغشُ بهذه الجرأة في أحبال الجر أو أجهزة الأمان .. هناك حدود.. حتي في مصر لم يكن أحد يتجرأ على كل هذه المصايب.. يقطعُ "فتحي" مسلسل الفضائح" بصوتٍ أستعيذ معه ويوقظ في نفسي: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير

).. - بالنسبة للتقارير اللي انت كاتبها ياباش مهندس أنا قلت للعمال أن الأخطاء دي تعدي فانت قول لهم تعدي وسيبهم يشتغلوا كدة.. وبعد كدة اكتبلي الملاحظات دي في المستخلص عشان نخصم عليهم شوية فلوس كدة



- وأنا مش هقول لحد تعدي علي حاجة غلط.. عاوز تعديها عديها على مسئوليتك



- طب أنا من أيام وأنا كل يوم أقولك اعمل ورقة خصميات على النجارين..



- خصم ليه؟؟.. الناس شغالين في عملهم الاساسي ورفضوا يشتغلوا شئ إضافي انت مش راضي تحاسبهم عليه..



- طب أنا هكتبها وانت تمضي عليها..

- أنا لا اتحمل واحد يذهب عند الكعبة ويدعوا علي..أما ناس قصرت أنا خصمت بالقدر اللي قصروا فيه لكن مش واحد يقصر فيما يعادل مية تخصم ألفين..ودول المرة دي مقصروش.. دي أموال

.. - هو كل واحد فاكر أنه هيروح يقلع راسه زي النسوان عند الحرم ويدعي عليا ربنا هيستجيب له؟!.. وبعد كدة شوكة تدخل ف رجلي يشمتوا ويقولك ربنا انتقم مني!! * * * لم يكن جديداً على فتحي أن يصيبه ما يسميه "شوكة!".. ولم يكن عجيباً في سنة الله الكونية أن يسيمه الله بعذاب من عنده .. وما عذاب ربك من الظالمين ببعيد.. ترى ما هذه "الشوكة" التي دخلت في "رجله" فاستهان بها صاحبنا؟!!

(5)


؟؟

السبت، 3 يوليو 2010

وعادت قريظة 3.. مذكرات ثلاثة أشهر في وسط البهائم

(3) لم يكن هناك بد من كتابة تقارير بالمخالفات وتسليمها ل "فتحي" مدير المشاريع!.. والمدير العام "سعد" أو "أبو مشاري" كما يحلو له أن ينادى بها.. أستجمعُ المخالفات تفصيلا ثم أعقب عليها برفضي لهذه الأعمال المخالفة ولجميع ما يترتب عليها من بنود في حالة عدم تصويب المخالفات، ثم أنصُّ على إخلاء مسئوليتي عن كل ما يترتب على ذلك من رفض أي جهة إشراف لاستلام الأعمال أو من أية خطورة إنشائية فيما بعد التسليم..

يرفض فتحي استلامها بطريقةٍ مهذبة.. أصررت علي تسليمه إياها ودخلت لزعيم العصابة "سعد" والذي وجهت إليه نسخة هو الآخر بصفته المدير العام.. فيتفقان معي على أن أسلم أي خطابات أو تقرير لدي "محمد سالم" المحاسب بالمؤسسة والقائم بجميع أعمال السكرتارية!.. واجهتهما بصراحة.. لماذا لا تتسلمان مني التقارير بصفة شخصية؟ وما هي صفة "محاسب" ليتسلم مني خطابات بتقارير فنية؟!


فقال فتحي (في بلاهة الأحمق حين يتعمد التحامق) : أصل أنا مكتبي بيدخله ناس كتيير.. وجايز تقرير منهم يضيع ولا حاجة فإحنا نحفظه عند محمد أحسن وهو يوزع علينا نسخ..

نظرتُ إليه وقد تهيأ لي رأسه رأس فأرٍ يتخابثُ حول مصيدة.. وددتُ لو أمسك بعصا غليظةٍ فأدقُ بها ذلك الرأس العفن.. لكنني لا أرضي له أن يموت هكذا بضربة عصا * * * انشغلت بإعداد المستخلصات والتقارير لصرف المستحقات من وزارة التربية والتعليم عن الأعمال السابقة التي أنجزوها في ثلاثة مدارس تابعة للمؤسسة.. لم يبق سوى توقيع المهندس المعتمد رسمياً لدي الوزارة عن كل مشروع.. ذهبت لمقر المؤسسة وقدمت المستخلصات لفتحي.. تفحصها بنظرةٍ عابرةٍ تماماً كما يتفحصُ البوابَ وثيقةٍ كتبت بالألمانية

! اعتدل في جلسته وبنبرةٍ هادئةٍ واثقة: تمام.. شوف ياباش مهندس.. عاوزك بقي توقع لكل مهندس من المهندسين المعتمدين دول توقيع تحفظه متنساهوش أبداً عشان المستخلصات الجية..

صُدِمتُ من وقاحته وهو يطلبُ التزوير في ثقةٍ وبراءةٍ كما يطلبُ الطفلُ من أبيه أن يدخله دورة المياه! - (بنظرة اشمئزاز أكاد أتقيأُ معها على وجهه) : أنا لا أوقع توقيع سوى توقيعي..

- (بنبرةٍ باردةٍ وقحة كأنما أصبح هو الطبيعي والأصل وأصبحتُ أنا الشاذ والغريب) : ليه ياباش مهندس فيها إيه؟!

- أبدا ما فيها شئ!.. تزوير فقط.. إن كنت تحب أن أقدم التقارير والمستخلصات بإسمي وأوقعها بإسمي فلا بأس.. أما أن أزور فهذا طلب مرفوض نهائياً..

- تناول قلمه في استعجاب! .. ثم زور لاثنين من المهندسين توقيعهما على تقريرين ومستخلصين .. ناولني الثالث: أنا وقعت اثنين.. وقع أنت الثالث..

ثار الدمُ في يدي وكدتُ أخلعُ نعلي لأدق به وجهه على الحائط.. كظمتُ غيظي بالكاد وتركته.. مرت أيامٌ ثم عاود فيها طلبه ثانية وثالثة ورابعة في إلحاحٍ لا يخفي فيه سوء نيته - شوف يا أخ فتحي.. لو أن والدي الذي هو والدي أمرني أن أوقع عنه "بتوقيعه هو" فلن أوقع.. - ليه يعني.. هما عندهم أدلة جنائية؟؟.. وبعدين لو حد عاوز يدخلك السجن في البلد دي هيدخلك من غير تزوير - ابق دخلني من غير تزوير مش مهم.. لكن متدخلنيش مزور.. والسجن ده تروح تخوف بيه واحد ميعرفوش * * * جمعتني الأقدار بالأستاذ "علي".. كنتُ كثيراً ما أحدثه عن نصبهم وغشهم وأكلهم أموال الناس.. كان جوابه المعتاد: هو فتحي طيب، بس هو في الشغل كدة .. مش هنقدر نغيره!.. - أستاذ علي أريد أن أتحدث معك قليلا.. - (تلفت يمنة ويسرة) : ليس هنا.. لا أدري لماذا كان يهابهم هذه الهيبة رغم عمره الذي قضاه هناك ورغم أنه شريك فتحي في مشاريعٍ أخري.. ظل يؤجلني مرة بعد مرة ويتشاغلُ حتي بدأ يشم رائحة الثورة ويتحسس سخونة المواقف.. يبدو أنه لم يعد يأمن بعد من انفجار الأمور انطلقنا بالسيارة نتجولُ بعيداً عن الموقع وأعينه وآذانه.. ظلتُ أقصُ عليه قصص الوقاحة المتزايدة والعفن المتسرطن فيهم.. وهو يسمعُ لا يُرى على وجهه مسحةُ عجبٍ أو استغرابٍ كأنني أحدثه عن أمورٍ معلومةٍ من الدين بالضرورة! - أتيتُ إلى هنا على عقد غيرِ مجدٍ.. فلا العقدُ وجدتُ ولا ما فيه ولا عملاً شريفاً ولا أسلوباً مهذباً.. حتي مصر المزور هناك لا يستطيعُ أن يتبجح في طلب التزوير والإلحاح فيه هكذا.. إنسان مثل فتحي هذا لو كان في مصر لألقي في السجن كالكلب منذ زمن.. - نحن لا نستطيع أن نقول لهم يريد أن ينزل الآن.. سيتكتلوا وسيقولون نريد ونريد وسيطلبون مبالغ.. - القانون يعطي الطرفين ثلاثة أشهر تجريبية وأنا لم أكد أبدا الشهر الثاني وهذا حقي.. أما طلباتهم وسخافاتهم فأنا الذي أطلب تعويضي وليس هم ..أنا الذي أدينهم - يا حسام هؤلاء كان عندهم مهندس اسمه محمد ونفوه في مشروع في الصحراء وكانوا فوق هذا يعطونه نصف ما يعطونك ويعاملونه معاملة غاية في السوء رغم شهادتهم له بالكفاءة.. ومع ذلك الرجل استمر معهم عامهم كاملاً وأكمل لهم المشروع وسلمه لهم ثم تركهم ولكن بعد سنة كما اتفقوا.. معني هذا أن "الأستاذ علي باشا" كان يعلم مسبقاً أنهم قوم سوء، ومع ذلك زكاهم لي وجعل منهم الأتقياء الأنقياء!.. حينها فقط عرفت لماذا قيل لي فيه حينما وصلت "قريبك ده ....".. هذا الذي كان يقول لي لا تترد وتعال وأية مشاكل أنا هنا وأنا هناك!!.. هذا الذي شاب رأسه هنا في المدينة ،، وشابت نخوته وصدقه ورجولته ايضأ.. -ولكنني لن أكمل معهم لا عام ولا نصف عام ولا حتي مشروع في هذا الوسط القذر.. وهذا أمر محسوم عندي.. علام أتحمل أمثال أولئك السوافل؟!.. هل جئت من مصر عاطلاً أم هل أخبرهم أحدٌ أنني لم أكن أجد قوت يومي؟!-؟!.. ويبدوا أنه لم يجد أملاً في محاولة ترويضي لهذا العفن فاختار الصمت * * *