(5)
بدا فتحي في ذلك اليوم شاحب الوجه، أكسبه حزنه نبرة خشوعٍ مصطنع، ورسمت ذقنه التي لم يحلقها منذ أسبوع على وجهه قول الله: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كـنهم خشبٌ مسندة) !.. كان مذياع السيارة يبثُ سورة يوسف في جوٍ صباحيٍ أسرت الغيوم شمسه.. تنهّد فتحي تنهيدة كأنها فارت فوق همٍ عميق يغلي بداخله، فدفعتها الفورة إلى لسانه، قال بنبرةٍ محترقة: - سورة يوسف عجيبة أوي يا أخي، كلما أقرأها وحدي أبكي.. نفس الذي يحدث الآن من ظلم الأخ لأخيه والـ.... تجمد الكلام على لسانه
.. لم أتعجب أن يبكي فظٌ نصابٌ ظلومٌ مثله.. وما العجبُ في عدل الله عز وجل أن يبكي مثله كما أبكى وأذل كثيراً من العمال الفقراء وأبنائهم وزوجاتهم واستحل أموالاً يتحصلون عليها بشق الأنفس فاستكثر عليهم ذلك الفتات؟! وصلنا الإدارة التعليمية حيث كنا على موعدٍ مع المهندسين المسئولين عن المشروع كالعادة يستقبلونه بتندر وتهكمٍ مازح..
-أهلاً دكتور فتحي.. ماشاء الله جاي بلحيتك كمنك هتقابل الشيخ "عبد الحفيظ" يعني؟ ولا تاب الله عليك؟! رد آخر: حتى المسجد ياراجل يانصاب؟!.. المسجد؟!- فيرد فتحي في استحياء مصطنع: استر علينا الله يستر عليك
ثم يتبادلون قصصه وهو ينصب على استشاري وزارة الأوقاف في أعمال إنشاء مسجد كان تحت إشرافه، وحيله وهو ينصب على لجنة الإستلام النهائي للمدرسة التي أنشأها في قرية "اليتمة" حين نجح في خداع اللجنة كلها ولم يكن هناك عملاً واحداً من الأعمال تم تنفيذه وفقاً للمواصفات، وغيرها وغيرها كلٌ منهم يحكي قصته وما شاهده أمامه من "الدكتور فتحي" كما يطلقون عليه حيث أنه
"دكتوراه في النصب"..
وهو يضحك ويقهقه منتشياً سعيدا بحيله قال له أحدهم وهو يضحك: عشان احنا بدو وقليلي الحيلة تنصب علينا؟ فازداد نشوة وزهواً كأنما حقق انتصارات تاريخيةٍ بحكايات نصبه أنهينا مهمتنا هناك، وتوجهنا بعدها للمدرسة
.. أخذني الفضول لأعرف أكثر عن هذه القصص.. لكنه كان منتفخاً بشهوةٍ عارمة ليقص عليَّ طوال الطريق مزيداً من تفاصيل هذه المصائب وبراعته في الاحتيال فيها وكيف أن لجنة استلام كبيرةٍ أتت من الرياض خصيصاً لم ينجح واحدٌ فيها في اكتشاف حيله.. كان الأستاذ "سامح" -مدير أحد مصانع الخرسانة- في انتظارنا ليتحدث معي في لوحات بعض المشاريع الخاصة به
.. لكن فتحي أخذنا إلى الحديث عن مصر وأحوال مصر، وكيف أن البلطجة اليوم أصبحت هي التي تحكم وتفصل في كثير من المنازعات! ثم بدا يقصُ علينا قصته حينما اعتدي "بعض الناس" علي أرضٍ له وعلي بعض عقاراته فباعوها ..
وكيف أن أرضه التي بيعت سكنها أناس مسلحون من الصعيد، لا يبرحونها ويحمونها لصالح اللواء الذي اشتراها..
- ذهبت للواء في الشرطة يعتبر ابن عمي.. قال لي أنا لا أستطيع أن أفعل لك شئ ما دامت الأرض خارج حيازتك، لكن أنا أدلك علي الطريق لتسترد ارضك ثم بعد ذلك نبدأ إجراءاتنا القانونية
.. دلني علي رجل من سوق العبور وقال لي هذا من سيعيد لك أرضك.. ذهبت وقابلته.. رجلٌ ضخم الهيئة.. حوله حراسته التي تتشكل من رجال الواحد فيهم يسد باباً وكلهم مسلحون.. أراني تحت مقعد السيارة الخلفي زخيرة تكفي ليحارب بها بلداً.. طلب مائة الف جنيه ليرد لي الأرض.. دفعتها له.. اتصل بي ذات ليلة وقال لي احضر الآن لأرضك لترى بنفسك.. خفت أن أحضر فتصيبني رصاصة طائشة أو يفشل رجاله في هذه المعركة "وأروح في الرجلين".. قال لي افتح تليفونك واسمع الضرب بنفسك
.. دخلت مجموعة مسلحة على سكان الأرض فأعدموهم ضرباً.. ثم أوثقوهم ليوقع كل واحد من خمسة رجال منهم على نفسه وصل أمانة بمبلغ مئتين وخمسين ألف جنيه ثم أخذوا منهم بقرة كانت معهم وأخذوا كل ما وجدوه في الأرض كغنيمة معركة لهم! حذروهم من أن يتنفس واحد منهم بكلمة عما حدث أو أن يخرج أحدهم من بلده في الصعيد.. بعدها ذهبت إلى الرجل ليحمي أرضي إلى حين أن أكمل إجراءاتها وكان المحامي قد أخبرني أن القضية ستسغرق حوالي ستة أشهر، وطلب الرجل عن كل شهر حماية عشرة آلاف جنيه فدفعت له ستين ألفاً أخرى...
كان فتحي يحكي هذه القصة وهو لا يعلم أنني أعرفها من قبل بكل تفاصيلها التي أخفاها، وأنها قصة متواترة بلغتني من عدة مصادر لصيقة به..
لم يذكر "فتحي س" شيئاً عن أولئك "الناس" الذين باعوا أرضه وكيف وصلوا للأوراق التي باعوا بها هذه الأرض..
إنها زوجته.. زوجته التي لم تسلم من شروره أيضاً فامتلأت عليه حقداً وبغضاً.. ثم استغلت توكيلات معها لبعض أملاكه فباعتها في إحدى الأجازات التي نزلت فيها لمصر وحدها حيث كان لا يستطيع النزول لمصر بسبب قضية "تزوير شهادة كلية الهندسة" لصالحه والتي كانت مرفوعة ضده في ذلك الحين، وغيرها من القضايا.. باعت أرضه وبعض ممتلكاته، ورفعت عليه قضية طلاق، وأبلغت عن مكانه ومقر مكتبه وجميع تحركاته حتى تم القبض عليه وتسليمه لمصر.. طلقها لتتزوج محاميه ثم خسر بعد ذلك ابنته حين توفيت مع أمها في حادث طريق هي وزوجها الجديد! حينها فقط علمت لماذا كلما تحدثنا عن مصر كان فتحي من بين جميع المشتاقين إليها دائماً يقول: أثقل شهر علي قلبي الشهر الذي أنزل فيه مصر.. لا أطيق نزولها.. وحين أستغرب كلامه يقول: ليس لي أحد هناك! كان كثيراً ممن حوله يقولون "ما حدث لفتحي في حياته لو حدث لأي أحد لكان كفيلاً بأن يهده عما يفعل من ظلم" .. لكنهم لم يسمعوه وهو يقول لي "ثم تدخل في رجلي "شوكة" فيشمتون في!.. اللي عاوز يروح يدعي يروح!" كأنه حين يقولها أسمعُ في أحرفه صدى: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم)... * * *
قال "خفاجة" ونحن نشرب شاي العشاء: ما رأيك في فسحة ستخرجك من جو الاكتئاب؟ - متي؟ - الآن.. نذهب إلى ينبع - ولكن الساعة جاوزت العاشرة.. وفي الصباح عندي موقع.. - وما المشكلة.. الفجر نعود..
تتسارع بنا السيارة بين الجبال صوب ينبع.. الليل أسدل ظلامه على الكون فلا نكاد نرى إلا مدّ كشافات السيارةِ على الطريق.. يكادُ النومُ يزملُ أعيننا لولا مسامرةِ نحاول أن ندفع فيها غطائه عن نفسينا..
كلُّ شئ حولنا يسكبُ النوم في العيون.. الظلام، والهدوء .. والطريق الذي نكاد لا نرى فيه بشراً سوانا.. نزيد من سرعتنا نحاول أن نسابق النعاس قبل أن يغلبنا في وسط الطريق.. اشترينا بعض السندويتشات والعصائر، ثم توجهنا إلى شاطئ البحر
.. ما إن نزلنا من السيارةِ حتى أنعشتنا نسمةُ هواءٍ كأنها قادمةٌ من مصر.. حاولتُ أن أسبح بعيني إلى الأفق البعيد علّني أخترقه وأصل إلى البر الآخر.. فخلف هذا الأفق مصر
.. قال صاحبي كأنه يقرأ ما في نفسي : سبحان الله.. مياه واحدة.. هنا على هذا الجانب ليس لها طعم.. وعلى الجانب المصري لها طعم آخر
- مصر كالجسد الذي ينتعش بروحه، حتى صحراؤها تستشعر فيها الحياة وإن كانت قاحلة.. وهذا لا يعارض أن احب البقاع عندي أحبها إلى الله على ترتيبها.. لكنها الفطرة التي لا تستطيع أن تنزعها السمكة لتنطلق حرة خارج الماء!.. حريتها خارج الماء هي الموت
سافرت عقولنا إلى مصر لدقائق.. ثم ارتطمنا في وحل الواقع لنجد أنفسنا في مقر مؤسستنا المحترمة!.. لا ندري لماذا يستمتع هؤلاء بالغش والنصب لهذه الدرجة؟!.. إنهم أحياناً يخالفون أو يغشون غشاً لن يفيدهم في مال مثلا ولا في غيرها.. الغش وخديعة
الآخرين في حد ذاتها هدف
ذات مرةٍ قال أحد الموظفين لـ "سعد" : يعني أنت تقرب "فتحي" و"عزوز" وأنت تعلم جيداً أنهم يسرقونك.. بل وضبطهم لاكثر من مرة يستخدمون عمالة الشركة ومعداتها لتنفيذ مشاريع لصالحهم، ثم تأتِ على واحد مثلي لا تعطيه راتبه لأكثر من شهر ولا يجد إلا إعاشة رمزية لا تكفي حتى للطعام لآخر الشهر.. هل تعلمُ أن صاحب السكن طردنا الشهر الماضي لأننا لم نستطع دفع أجرة المسكن وبت ليلة في الشارع أنا ومحمد المحاسب؟!
رد عليه سعد –ببرود - : اسرقني أنت كمان زيهم
وظللتُ وصاحبي نجاوب أمواج البحر بأمواجٍ مما في نفوسنا من غضب.. ويفيضُ كلٌّ منا مما رآه من عجاب النفاق والغش والعفن.. حتى تسلل إلينا النعاس من جديد.. قال: يبدو أننا سننام هنا.. بلغ بنا التعب مبلغه ولا أستطيع أن أقود.. - أما أنا فعندي أتعذب ساعتي الطريق ثم أرتاح ساعة في فراشي هي خيرٌ من عشر ساعات نوم هنا.. نم أنت.. ولكن بعد أن تدلني على مفرق الطريق حتى لا تجد نفسك في جدة وانطلقنا نسارع النوم ونصارعه.. أشدُّ أعصاب عيني لتبقى مفتوحةً رغماً عنها حتى لا تنهدّ عليّ جبال النوم المحيطة
قال صاحبي وهو يتثائب: ماذا ستفعل في هذا الكمين، ورخصة السيارة ليست معي، وأنت بلا رخصة ؟ -وبلا إقامة أيضاً!.. عساهم يرحلوننا فنعود لمصر رغماً عن سعد..